ماذا يحدث في كينيا



كان في سياسي كيني اسمه جوسياه كاريوكي..يشبه في مضمون خطابه، إلي حد كبير، السياسي الكولومبي الشهير خورخي جايتان الذي ناهض احتكار رجال الأعمال صناعة القهوة، وانتقد الكنيسة الكاثوليكية المتحالفة مع أوليجاركية حزب المحافظين، وكان مصيره رصاصتين وهو المرشح لانتخابات الرئاسة ما أشعل حقبة العنف في كولومبيا التي أودت بحياة مائتي ألف قتيل في منتصف الخمسينات..الرئيس الكيني جومو كينياتا المنتمي للكيكويو كان يريد التخلص من منافسيه المؤيدين لأودينجا والمنتمين إلي قبيلة اللو في انتخابات برلمان 1974، فأصدر تشريع يمنع ترشح أي شخص لم يكن عضوًا في حزب كانو لمدة 3 سنوات.

تخلص من منافسيه، لكن تبقي شخص واحد..كاريوكي الذي كان عضوًا في حزب كانو ثم انشق وبدأ يطالب بإجراءات لتقاسم السلطة ومكافحة الفساد وغيرها من المطالب التي لم يطقها كينياتا..التكنيك المعتاد..اتهم منافسك بالفساد واجلبه للمحاكمة وشوه سمعته..فشل مع حالة كاريوكي..بعد أسابيع عُثر علي جثته في سهول نجونج بالقرب من نيروبي..أصابع مقطوعة وعيون مفقوعة ووجه محترق بالأسيد..منفذ العملية التي لم تعترف بها حكومة كينياتا يومًا كان الرجل القوي، رئيس وحدة العمليات العامة في الشرطة ‘‘بين جيثي‘‘ الذي شوهد كاريوكي برفقته آخر مرة لدي مغادرته فندق الهيلتون.



بالمناسبة هو تقريبًا ذات الأسلوب الذي تتبعه وحدة العمليات العامة حتي الآن، لكن ليس في مواجهة الخصوم السياسيين، بل من تصنفهم السلطات كإسلاميين متطرفين متعاونين مع حركة الشباب الصومالية في تجنيد إرهابيين من مخيم داداب للاجئين الصوماليين شرقي كينيا..محاولة فاشلة لمحاكمتهم، فيتم تصفيتهم خارج نطاق القانون بإشراف ظباط الوحدة، وكانت الحالة الأبرز للداعية الإسلامي مقبوري الذي ظهر في شريط وثائقي للجزيرة الانجليزية Inside Kenya's Death Squads يلقي باللائمة علي الشرطة الكينية في عمليات التصفية التي تطال دعاة مسلمين ويتنبأ باغتياله بذات الطريقة، وهو ما كان بعد 6 أشهرعند مغادرته مبني المحكمة..علي أي حال..آخر مرة اتبع فيها أسلوب تصفية كاريوكي بحق معارضين سياسيين كانت قبل 28 سنة.

الضحية كان وزير الخارجية الكيني روبرت أوكو..انقلب جزئيًا علي الرئيس أراب موي، بدأ يطالب بمكافحة الفساد..ولما رافق أراب موي في زيارة واشنطن 1990، رفض بوش استقبال الرئيس علي مائدة العشاء بينما سرت شائعات أنه قابل وصافح وزير خارجيته منفردًا..الأوضاع كانت متوترة للغاية في كينيا..جبهة دينية معارضة لنظام الحزب الواحد بقيادة الكاهن تيموثي ناجويا، وجبهة سياسية وليدة من وزراء منتمين للأغلبية العرقية بقيادة ماتيبا وروبيا..أراب موي أمر وزير خارجيته بالعودة في طائرة أخري غير الطائرة الرئاسية التي حملتهما لواشنطن..وكالعادة وجدت جثته مشوهة بنفس طريقة قتل كاريوكي..مش كل مرة تسلم الجرة.

ظروف الحرب الباردة والميول الماركسية لكاريوكي والتي دفعت العالم للتواطؤ علي تصفيته تغيرت..لندن بالأمر المباشر فرضت أحد التحريين في سكوتلاند يارد للتحقيق في القضية..التحري جون ترون أثبت ارتباط أحد المقربين للرئيس وُيدعي نيكولاس بيفوت بعملية التصفية..أراب موي أراد نفي التهمة عن نفسه..فجرّ بيفوت لمحاكمة هزلية..العالم أذكي من أن يتم خداعه بمقولة أن بيفوت تصرف بمفرده..الدانمارك قطعت المساعدات عن كينيا، تلتها بريطانيا ثم جميع الدول والهيئات المانحة في مؤتمر باريس 25-26 نوفمبر 1991 مُعلقة عودة المساعدات بالإصلاحات السياسية، فكان إطلاق التعددية الحزبية واستعادة المساعدات بالتدريج وفي مقدمتها المعونة العسكرية الأميركية.

من شهر أجريت الانتخابات الرئاسية الكينية بين المرشحين أوهور كينياتا ومنافسه رايلا أودينجا الذي خسر الانتخابات 3 مرات سابقة..أعلنت النتائج بفوز كينياتا بمدة جديدة..لكن بالأمس فاجئت المحكمة العليا العالم أجمع بإلغاء نتائج الانتخابات التي تكلفت 500 مليون $ لمخالفتها الدستور، علي أن تُجري انتخابات جديدة في موعد لا يتجاوز 60 يوم..لتصبح كينيا أول بلد في تاريخ إفريقيا يبطل نتائج انتخابات رئاسية..وفي وجه من؟ وجه الرئيس أوهور كينياتا الذي تقبل الحكم علي مضض بعد أن وجه تهديدًا مبطنًا لقضاة المحكمة بإجراء إصلاحات حال فوزه من جديد..

الديمقراطية ماراثون..علي حد تعبير نانجالا نايبولا في مقاله المرحب بالقرار التاريخ في بلاده..وكينيا قطعت أشواط وما زال أمامها أخري..لم تعد الدولة التي يقوم فيها الرئيس بسلق خصومه بالأسيد بعد فقأ عيونهم، ولم تعد تلك الدولة التي يتوجه فيها الناخبون للإدلاء بأصواتهم في صندوق واحد..وبالتأكيد لم تعد تلك التي يقبل قضاتها تمرير نتائج انتخابات مطعون في نزاهتها حتي وإن كان الخصم هنا هو الرئيس وقبيلته المسيطرة علي 80% من الديموجرافيا الكينية..تاريخ الديمقراطية الإفريقية يصنعه قضاة كينيا..علي أمل أن يتعلم قضاة مصر الدرس وهم علي أعتاب عملية انتخابية مزيفة، إن لم يسبقها بالطبع مهزلة تاريخية بتعديل الدستور.



ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.