قليلٌ من الأرقام . . كثيرٌ من الجهل بين الإمام البخاري والنصاب

بين الإمام البخاري والنصاب. ( 1 )
[قليلٌ من الأرقام . . كثيرٌ من الجهل]

---------------------------------
بسم الله الحقّ .
قالت العرب : "لا عوقِب الأحمقُ بمثل السكوت عنه".
وقال شاعرُهم :
لكلِّ داءٍ دواءٌ يستطبّ به . . إلا الحماقة أعيت من يداويها
وإن العاقل لا يشك لحظة في عظم البلاءِ إذ يناظر أحمقَ أو يجادله، ولكننا في عالم يصيح فيه الأحمق، فيردد خلفه أحمق آخر، فثالثٌ فرابع, حتى تنتشر الحماقة انتشار الجرب في البهائم فلا يسع العاقل إلا أن يتكلف عناء توضيح الحماقة والردّ عليها حتى تتضح كالشّمس للناظرين, ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة
فإذا انتهى من توضيح الحماقة ؛ انحرف عنها راشدًا واستغفر الله.
ونحن هنا في هذه السلسلة من المقالات نرد على الملحد (شريف جابر) في حلقته الأخيرة بعنوان (تخاريف البخاري وكذبة الأحاديث)
على هاشتاج #بين_الإمام_البخاري_والنصاب
وعزاؤنا وتسليتُنا إذ نفعل ذلك هو قول البُحتري رحمه الله :
عليّ نحتُ القوافي من معادنا . . ولا عليّ إذا لم تفهم البقرُ
فنقول وبالله التوفيق :
(1)
تمهيدٌ :
بنى ملحدنا حلقته كلها على أنه لا يوجد ما يسمّى بالأحاديث، وأن هذا الأمر أكذوبة مصطنعة، موضوعة لتمجيد شخص محمد -رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف ملحدنا -، وأنها كانت لظروف سياسية ولّدتها من خيالات المسلمين، لتمكنهم من التوسع في الغزو .. إلى آخر المضحكات التي نناقشها تباعًا إن شاء الله.
لكن ما يهمنا في هذا المقال هو الوقوف مع أول 3 دقائق مركّزة امتزج فيها التضليل بالغباء بالسذاجة فأنتجوا النكّتة المضحكة التي سنشاركها معكم إن شاء الله, فنَضحك ونُضحِك, ولا أحب إلى الله من سرورٍ تدخله على مسلم.
---------------------
(2)
المخرج عاوز كده :

يبدأ ملحدنا حلقته فيقول : "البخاري شخص عادي ، كان فيه ناس بتحبه وتدافع عنه ، بس كان في ناس بتقول أنه كذاب وبيألف"

الآن دعونا نختصر المسافات ونسأله سؤالًا واضحًا: من أين أتيت بتلك المعلومات؟
هناك عدة احتمالات :
أولا : من جيبك الشخصي
ثانيًا : من البقالة المجاورة لمنزلك
ثالثًا : من مرويات تاريخية
ولأن الخيار الأخير هو الأرجح كما يظهر فلنا أن نستغرب !
حلقة كلها تقول أن المرويات كذب محض وخرافة وغير موثقة، ثم يأتي صاحبها بمرويات تاريخية من نفس اللحظة الزمنية وفي نفس الظرف المكاني ودون أي تمحيص، ثم ماذا؟
ثم يتبناها ويبني عليها تحليلا ويخرج بنتيجة مهمّة: هناك أناس كذبوا البخاري.
كما قلنا مرارًا وسبقنا العقلاء: الانتقائية تفضح كل مدعٍ للمصداقية.
لماذا رفضت كل الروايات التاريخية, بل رفضت الفكرة من الأساس كما يبدو, وفجأة صارت تلك الروايات التي تحكي عن أناسٍ كذّبوا البخاري مقبولةً عندك؟
إن مثل هذا التناقض له تفسيران لا ثالث لهما, الأول أن ملحدنا يتمتع بقدرٍ غير قليلٍ من الغباء, الثاني أنه يظنّ المشاهدين أغبياء.
وأنا شخصيًا لا أمانع من الجمع بين الوجهين.
فإن قال ملحدنا : ثمّة منهج لتحقيق المرويات التاريخية لديّ
قلنا له : هذا هو غاية المنى، هاته!, أعطنا ما لديك!، أعطنا المنهجية العبقرية التي تعتمدها لإثبات الروايات التاريخية!
وفي اللحظة التي يفعل فيها ذلك سيثبت أن حلقته ما هي إلا هراءٌ مركّبٌ مِن أساسها, لإمكانية إثبات التاريخ من خلال الروايات.
وإن لم يفعل –ولن يفعل- فيبقى السؤال يطلّ علينا برأسه : لماذا قبل ملحدنا روايات تطعن في البخاري بينما رفض كافّة الروايات بما فيها روايات البخاري نفسها؟!
الإجابة : بمزاجي عادي! كيفي.. المخرج عاوز كده!
ثم يقول ملحدنا :
قال البخاري عن نفسه أنه كان يحفظ في صغره 70 ألف حديث.
وكما تلاحظون مرة أخرى، يرتكب الكافر بالله نفس المغالطة ذات الأذنين الطويلتين والذيل الأبيض المطارد للذباب
يا فخامة الملحد العبقريّ ؛ أنت تقول أنه ما من سبيل لإثباتٍ منهجيٍّ لمرويات التاريخ والحديث, وفي منتصف الحلقة تقول بالنص : " دا إذا كان في حد اسمه الرسول أساسًا "
فتشكك حتى في أن يكون ثمّة طريقة ما لإثبات وجود شخص اسمه محمد، بالطبع أعرف من أين نقلت كلامك المضحك، لكن ما يهمني الآن :
مين أتيت بكلام محمد ابن اسماعيل البخاري؟
ولماذا تتكلم عن وجوده بوثوقيّة وأنت تشكك في وجود مَن هو أشهر منه أضعاف المرات (النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه!)
ولماذا قررت أن تصدق النقولات التي فيها أن البخاري قال عن نفسه أنه حفظ في صباه سبعين ألف حديث؟ أليس ممكنا مثلًا أن يكون أحد كارهي البخاريّ قد دس تلك الرواية بين الكتب؟
أرجوك لا تخبرني أن علماء المسلمين قالوا ذلك،أنا أعرف ، لكنك تقول أنهم يكذبون أيضًا!
أم أنك وافقت أن تصدق تلك الرواية التي فيها كلام البخاري عن نفسه لأنه خدم هجومك عليه؟
أم أنه كاذب وصادق معًا؟!
أم أننا حمقى ومجانين لنقبل منك مثل هذا الخطَل والتخبّط؟
الانتقائية والتخبط المنهجي قد يمرّان على الغافل مرة، لكن مرتين متتاليتين؟!
نكرّر ما سبق مراعاةً لمهارة الغباء التي تكلّمنا عنها منذ قليل, خلاصة هذا الجزء من المقال:
1- من أين لك بتلك المرويات التاريخية التي تطعن في البخاري؟
2- حدّثنا عن منهجك في الحكم عليها بالصحة والضعف, وعن الاختلاف الجوهري بينها وبين مرويات البخاري.

نعلم أن النقل عن كتب المستشرقين سهل جدًا، لكن عليك أن تعلم أن التمحيص صعب .. صعبٌ جدًا .. وسنرى!
---------------------
(3)
إحصائية النّصب.
أراد ملحدنا أن يَعرِف بالتقريب عدد كلمات 70 ألف حديثٍ كان يحفظهم البخاري رحمه الله في صباه, فكيف توصّل إلى ذلك ؟
راقِب خطواته معنى, وممنوعٌ الضّحك.
قال :
1- صحيح البخاري فيه قرابة 7000 حديث.
2- عدد مجلداته 6 مجلدات
3- إذن ؛ 6 مجلدات = مقدار 7000 حديث.
4- بالتالي ؛ 70,000 حديث = 60 مجلد.
5- افترض أن عدد صفحات المجلد = 333 صفحة.
6- بالتالي عدد صفحات الـ 60 مجلّد = 20,000 صفحة.
7- افترض أن الصفحة متوسطها 450 كلمة.
8- بالتالي عدد كلمات الـ 20,000 صفحة = 9 مليون كلمة.
9- تلك الـ 9 مليون كلمة هي كلمات النص الحديثي فقط دون أسماء الأشخاص.
10- فكيف لو تفاجأتم أن فوق الـ9 مليون كلمة كان البخاري يحفظ أسماء الأشخاص ومولدهم وبلادهم وووو.. (!!)
ثم بنى نقده لذلك الخبر على تلك النتيجة.
والآن لننظر إلى المهزلة التي حدثت والتلاعب الإحصائي الذي قام به ملحدنا مستهزئًا بعقول المشاهدين, وكأنه يخاطب قطيعًا من البقر الوحشيّ.
ولنوضّح تلك المهزلة دعونا نلعب لعبةً لطيفةً مع الملحد.
1- هو بنى كلامه على أن صحيح البخاري 7000 حديث, بينما هو 7500 حديث, وهذا الفارق سيؤثر في النتيجة بمقدار 6.6% تقريبًا
رقم 6.6% من مجموع 9 مليون كلمة = قرابة 60 ألف كلمة .
لكن بالنسبة لعمليّة النصب التي ستكتشف أنك تعرّضت لها خلال فيديو الملحد ستعتبر هذا الرقم رقمًا ضئيلًا جدا.
2- كان من مقدّماته الأساسية المهمة جدا أن صحيح البخاري = 6 مجلّدات, وأتى بطبعة دار ابن كثير له في 6 مجلدات.
وهنا مركز عملية النّصب فانتبه!
أولا : الطبعة التي اعتمد عليها ليست لصحيح البخاري فقط, بل الطبعة له مع أحد شروحه من خلال نظام شرح في التراث اسمه (الحاشية) , فطبعة صحيح البخاري التي اعتبرها مقياسه الذي سيتوصل به لمعرفة عدد كلمات الـ70 ألف حديث = ليست طبعةً لصحيح البخاري وإنما لصحيح البخاري بحاشية "السهارنفوري"
تلك أول المهازل الضخمة.
ولنرى أثر تلك المهزلة في النتيجة دعونا نستبدل طبعة الملحد التي كان اختيارها نصبًا على المشاهد بطبعة دار السلام في مجلّد واحد وعدد صفحات الأحاديث فيها 1300 صفحة .
إذن 1300 صفحة = مقدار 7500 حديث وهو عدد أحاديث صحيح البخاري بالتقريب للأقل.
إذن ؛ مقدار 70,000 حديث = 12133 صفحة.
ومتوسط عدد الكلمات في صفحة الكتاب بطبعة دار السلام أقل من 450 وهو العدد الذي افترضه ملحدنا متوسطًا لعدد الصفحات, لكن لا مشكلة سنعتمد عدد الكلمات الذي افترضه فنضرب 450 في عدد الصفحات لنرى كم كلمة يكون متوسّط الـ70,000 حديث الذين حفظهم البخاري في صغره.
الناتج = 5 ملاين و446 ألف بالتقريب للأكثر
تغيير الطبعة فقط مع اتباع نفس المنهجية الإحصائية جعل الرقم ينقص 3.5 مليون كلمة ! ونسبتها في الرقم الكلي = 38.8% !!!
تتحدث عن إحصائية إذا غيرت الطبعة من دار السلام إلى دار ابن كثير اختلف الناتج بنسبة 40% !
أرأيتم مهزلةً إحصائية أكبر من هذه ؟
على العموم لم تنتهِ المهزلة , فرقمنا هذا هو رقم كلمات نصوص الأحاديث مع الأسانيد, وشريف قد عدّ الـ9 مليون كلمة للأحاديث فقط بدليل أنه قال بعدها :
"يعني 9 مليون كلمة, دا (غير) إنه قال إنه كان حافظ الأحاديث كلها بأسماء الرواة ووو.." انتهى.
إذن ؛ فقد اعتبر رقم 9 مليون كلمة هو رقم النصوص الحديثية فقط منفردة عن حفظه للأسانيد.
لنحذف أرقام كلمات الأسانيد من ناتجنا الأخير الذي ظهر بعد تغيير طبعة الكتاب فقط وإعطاء رقمٍ أدق لعدد أحاديث صحيح البخاري.
ولمعرفة متوسط كلمات الإسناد تخيّرت 10 أسانيد من الكتاب بشكل عشوائي وحسبت متوسط عدد كلماتها فكان الناتج 30 كلمة
الآن اضرب الـ 30 في عدد الأحاديث 7500 = 225,000 كلمة للسند في صحيح البخاري !
اضربها في 9.3 لتحصل على عددها في 70.000 حديث = 2 مليون و90 ألف تقريبًا
ولنفترض أن كلّ حديث تكرر فيه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم جملة (صلى الله عليه وسلم) لمرة واحدة (وهي لا تحتاج حفظًا لذلك سنحذفها من الإحصائية) وهي 4 كلمات مضروبة في 70000 حديث = 280,000 كلمة !
5,446,000 - (280,000 + 2,090,000) = 3 ملايين و80 ألف تقريبًا (بالتقريب للأكثر)
هل رأيت إحصائية في حياتك قطّ تتغير من 9 مليون إلى 3.08 مليون بسبب تغيير طبعة الكتاب الذي جرى عليه الإحصاء من دار ابن كثير إلى دار السلام (مع حذف الأسانيد التي أدخلها في الإحصاء وهي ليست منه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تحتاج لحفظ) ؟! لينقص الناتج بمقدار 58% تقريبا بما يزيد على النصف بكثير ؟!
نعم, ستراه إذا شاهدت رجلًا -أو هكذا يبدو- يستخفّ بعقلك في أحد فيديوهاته ويعاملك كحمار -عفوًا لكن لا أستطيع التعبير عن نفس المعنى بصورة أخف- !
3- والآن اسمحوا لي أن أريكم ما الذي يحدُث حينما تطلب من أحد سائقي التوكتوك أن يلقي محاضرة عن الرأسمالية في كلية الاقتصاد, أو حينما تستمع لحسابات الإحصاء من شريف جابر.
لماذا جعلنا شريف جابر نتكهّن بعدد كلمات صحيح البخاري نفسه وهو بين أيدينا يمكنا إحصاء كلماته بكلّ سهولة عن طريق ملف "وورد" للكتاب يُظهر لك عدد الكلمات في الأسفل ؟!
بكلّ بساطة أتيت بنسخة "وورد" لكتاب صحيح البخاري من المكتبة الشاملة, وحذفت منها عدد الأقواس (لأن البرنامج يعدها كلمات) وحذفت عدد ترقيم الأحاديث لأنها معدودة ضمن الكلمات فكان عدد الكلمات = 603,830
وحذفت عدد الأسانيد حسب متوسط كلمات السند السابقة, وحذفت عدد كلمات الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنها تكررت مرة واحدة كلّ حديث (وبالطبع تكررت أكثر)
فكانت النتيجة = 349,000 تقريبًا (بالتقريب للأكثر)
إذن ؛ فمقدار الكلمات في نصّ 7500 حديث = 349,000 كلمة تقريبًا
إذن ؛ مقدارها في 70,000 حديث = 3,25 مليون كلمة تقريبًا
ومن الملفت تقارب هذا الناتج مع ناتجنا بعدما غيرنا الطبعة, ليتضح لنا طريقة نصب شريف على المتابعين في مضاعفة العدد الذي ينبغي أن تكون عليه الكلمات إحصائيًا (بل وزيادة على الضعف بـ8% !)
وأخيرًا : فحسابُ هذا الموضوع بشكلٍ إحصائي بتلك الطريقة الجامدة = مستحيل أصلًا
لماذا ؟
لأن الذاكرة تنتجُ علاقات معنوية توفّر عليها حفظ كل تلك الكلمات كلّ مرة.
كمثالٍ بسيط :
هناك سند : عن مالك عن نافع عن ابن عمر
هذا الإسناد اسمه : السلسلة الذهبية , وهو متكرر كثيرًا في كتب الأحاديث.
تخيّل أنك تحفظ عشرة أحاديث لها ذلك السند, كل ما عليك أن تحفظ الحديث وتحفظ معه كلمة "ذهبية" لتربطه بالسند الذي حفظته مرة واحدة "مالك عن نافع عن ابن عمر" فتختصر على نفسك حفظ 60 كلمة في 10 أحاديث إلى كلمة واحدة تربطها بكل حديث منهم وانتهينا
فكيف وبعض الأسانيد تتكرر مئات المرات, وكيف وبعض الرواة يروون عن بعضهم آلاف الأحاديث؟ فيتكرر معك فلان عن فلان بضعة آلاف مرة ؟!
هذا مثال على طريقة عمل الذاكرة عند الحفظ, ولا يمكن أن يُحسب مثل هذا بالإحصائيات, لأن كل شخصٍ له طريقته في إيجاد العلاقات التي تختصر عليه المسافات.
---------------------



(4)
فقرةُ الساحر والأراجوز وفكاهاتٌ أخرى :
يقول الملحد بعد ذلك أن حفظ البخاري لأسماء الرواة = أنه حفظ تواريخ مولدهم ووفياتهم وأماكن عيشهم.
وهنا نلاحظ أن ملحدنا المسكين لا يفرّق بين حفظ الأحاديث بأسانيدها, وعلم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال.
فحِفْظُ البخاري لـ70 ألف حديث لا يعني أنه كان يعرف أحوال رجالاتها ووفياتهم وميلادهم , هذا في علم مستقل اسمه الجرح والتعديل, لكنّ ملحدنا جاهل.
(بالمناسبة كان للبخاري رحمه الله علمٌ بأحوال الرجال وهو في سن 11 سنة, وتعقّب بعض مشايخه في تضعيف بعض الرجال وظهر حينها أن كلام البخاري هو الأصح, لكننا نبيّن لك كيف أن الملحد يحاول أن يضخّم لك الأمور ولو لم يكن الخبر بتلك الضخامة, ويحاول أن يكثّر لك الأرقام والأعداد وفقط .. أما عن مقدرة البخاري أو أي إنسان متميز على حفظ تلك الأحاديث في تلك السن فسنتكلم عنها في آخر المقال إن شاء الله)
ثم يتساءل : "إزاي وهو طفل لحق يسمع 70 ألف حديثٍ؟"
فأجيبه أني شخصيًا (أحدُ كاتبَي المقال) سمعت 2000 حديث بأسانيدها من بعض الذين سمعت منهم الحديث في مجلسين, يعني لو كنت تابعت الحضور على هذا النسق فقد كان ينقصني مواظبة شهرين فقط لأسمع مقدار 70 ألف حديث, وبالمناسبة كنت حينها طفلًا لم أبلغ الحُلُم.
(لاحظ .. كان استنكاره على مجرد سماع الأحاديث فأجبناه بما يخصّ السماع لا الحفظ, وللحفظ موضع في آخر هذا المقال إن شاء الله)
ويتساءل : "إزاي لقى القدر دوّت من الأحاديث في بيئته اللي هي كانت بيئة صحراوية"
يا ليت أحد القراء يخبر ملحدنا أن الأحاديث لا تحتاج للماء لتنمو, فلا علاقة بالصحراء والغابات بموضوعنا.
ثم ليخبره أن بخارا (والتي تغاضينا عن أنه نطقها بترقيق الراء في أول الفيديو) ليست صحراوية, ولا تشبه ذلك المشهد الذي جاء فيه بجمال يقودها أصحابها.
إنما لأن معلوماته عن البخاري كانت معلومات وكيبيديا عجولة دون مذاكرة ودون مدارسة فقد نسي بعد دقيقتين من بدء الفيديو أن البخاري من بخارا, وبقي عنده الانطباع الثابت أن المسلمين في شبه الجزيرة العربية, بالتالي الإسلام دين صحراوي, والبخاري مسلم, إذن هو في صحراء, وبالطبع ستموت الأحاديث من العطش في الصحراء, فكيف للبخاري أن يجد في تلك الصحراء 70 ألف حديث !
لكن الحقيقة بعيدة عن ذلك الخَطَل, فمدينة بخارا جوّها -لحظة كتابة المقال- : (درجة الحرارة 25 ، سرعة الرياح : 14كم/س ، و20% نسبة الرطوبة)
وتشغل حيزًا في أواسط إحدى الواحات الكبيرة القائمة على نهر زرفشان.
وتخميني الشخصي أن الأحاديث حينما كانت تعطش كان يسقيها المحدثون من هذا النهر, فاستطاع البخاري أن يسمع 70 ألف حديث بلا مشاكل, والحمد لله رب العالمين.
أما عن وسط بخارى الأدبي والمعرفي فقد كان لبخارا وضعها في الأدب الفارسي بلا شك , وفي غير الفارسي
حتى قال عنها جلال الرومي : "بخارا منجم المعرفة."
وينهي الملحد كل تلك الجهالات بثقة الجهلاء المعروفة : "خلّينا نعدّيها"
شكر الله لكم يا سيادة النصّاب
ثم يقول بعد ذلك :
"لنفترض مثلًا إنه كان بيسمع عشر أحاديث في اليوم"
يبدو أن ملحدنا صدّق الأمر, وصدّق أن بخارا صحراء, وأن البخاري يبحث عن الأحاديث بين الحشائش ويصطادها من الكثبان الرملية, فلا يستطيع أن يحصل إلا على 10 أحاديث في اليوم يسمعها
(وتأكد أن ملحدنا يتحدّث عن مجرد سماع الأحاديث لا حفظها, لأنه بعد ذلك يقول : دا لو تخيلنا برده إنه كان بيحفظ أي حديث يسمعه من أول مرة.
فاتضح أنه يتكلم في الـ10 أحاديث على مجرد السماع لا الحفظ)
وقد ضربتُ كفّيّ ببعضهما, ما هذا السّخف؟ ألهذه الدرجة يحسَبُ أن المستمع أحمق؟ ألهذه الدرجة يظنّ أن الناس لا عقول لهم ؟
طالبٌ لعلم الحديث لن يتمكّن من سماع أكثر من 10 أحاديث في اليوم ؟!
يا رجل أنا بنفسي سمعت 1000 حديث في اليوم, وهناك ممن أعرفهم من سمع صحيح البخاري كاملًا من الفجر لمنتصف الليل ! يعني في أقل من يومٍ وليلة !
ربّما يظنّ الملحد أن الأحاديث كانت نادرةً في هذا العهد, وهذا جهل, فإنه من أيام الصحابة والتابعين كانت الأحاديث قد جُمعت, وصارت تُسرد بالمئات في اليوم الواحد
فعن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت :
" ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن -النبي صلى الله عليه وسلم- يسمعني ذلك, وكنت أسبّح فقام قبل أن أقضي سبحتي, ولو أدركته لرددت عليه, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم"
ففي عصر الصحابة كان هناك مجالس للتحديث, فيها سردٌ متوالٍ للأحاديث, حتّى أن عائشة رضي الله عنها استغربت واستنكرت تواليَ هذا السّرد.
فلو أن رجلا في عام 30 هجريًا أراد الحديث لسمع 10 أحاديث في ربع ساعة, فكيف برجل في القرن الثالث بعدما جُمعت الأحاديث وكثُرت بل ودوّنت في كتب, فكتاب موطأ مالك فيه آلاف الأحاديث وقد مات الإمام مالك قبل مولد البخاري بسنوات !
ملحدنا هنا يتحدّث إلى مَن يظنهم حفنة من الحمقى والمعاتيه, أما نحن فلسنا كذلك والحمد لله, بل نقدر على تفنيد كلامه فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
صدّق ملحدنا كذبته, وبدأ بالبناء عليها, فقال : لو أن البخاري يسمع في اليوم 10 أحاديث فهو يحتاج إلى 19 عام حتى يسمع 70,000 حديث !
يا للهول !! أفحمتنا يا رجل .. !
أما أنا فأقول بكلّ بساطة أني سمعت في اليوم 1000 حديث, يعني أقدر على سماع 70,000 حديث في 70 يوم. وانتهت المعضلة.
(لاحظ : كل كلامنا عن السماع الذي استنكره هو لحُمقه, أما كيف حفظ البخاري هذا القدر في تلك السن؟ فسنفرد له ردًا في آخر المقال كما سبق ونبهنا إن شاء الله)
---------------------
(5)
العلمُ يتعرّضُ لتحرّشٍ فاغتصاب ! :
بعد ذكره كل هذا الهراء المنهجي، وكل تلك الأرقام المغلوطة وكل تلك الألاعيب الإحصائية المُحتالة المخادعة ..
أبى أن يترك العلمَ وشأنه, وكعادة الملحدين في انتهاك عرض العلم, ثم التبجّح بحيازته ؛ فعل مُلحدنا ذلك
ولنبين مهازله العلميّة كما بيّنا مهازله الإحصائية دعونا الآن ندخل في موضوع صعب عليه قليلًا، وتسليتنا فيه كما قدّمنا :
عليّ نحتُ القوافي مِن معادنها . . ولا عليّ إذا لم تفهم البقرُ
يقول بلهجة صوتٍ تتصنع الحكمة :
"العقل البشري غير قادر على حفظ هذا الكم من المعلومات"
طبعًا ، توقعت بعد هذه الجملة أن أجد شرحًا علميًا محكمًا ، كأن يخبرني مثلًا أن علماء البشرية أثبتوا أن الذاكرة البشرية تحتفظ بقدر 1 جيجا من المعلومات لا أكثر، بالتالي ما يقوله البخاري مستحيلٌ إلا لو كان معه هارد خارجي, أو فلاشة كبيرة الحجم.
أو أن يقول ملحدنا مثلا أنه وبالدليل القاطع قام مع علمائه باستقصاءٍ على مدار التاريخ الإنساني ووجدوا كذا وكذا ، لكني لم أجد شيئًا من ذلك، فماذا وجدت؟! تعالوا ننظر, ثم نضحك :
وبدايةً سأحاول أن أتفاهم معك قليلًا, بلغتك نفسها ، أقول – بصوت ظريفٍ يتصنع الحكمة - :
خد بالك يا أوستاذ شريف بس ، العقل البشري اللي بتتكلم عنه دا مفهوم مطاط جدًا، والعقل البشري بتاع إنهاردة مختلف عن العقل البشري بتاع ما قبل 100 سنة من الآن، وهفهّمك ليه ..
في الغرب المتقدم يهتم العلماء بإجراء الأبحاث والدراسات عن تأثير التقنية الحديثة على الذاكرة, وخلاصة كلامهم أنها تدمر قدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالمعلومات لوقت أطول، وألفوا كتبا وكتبوا أبحاثا علمية عن ذاكرة جيل الإنترنت -واسمها العلمي هكذا بالمناسبة – وتفاصيل طويلة..
أتدري لماذا؟ لأن العقل الذي تحمله –وياللعجب- في رأسك ليس آلة تعمل بالبنزين, بل هو كيان كبير ضخم معقّد.
حتى النظريات التي تفسر الذاكرة ؛ جميعها غير يقينة، وبينها خلافات, وفيها تحسينات
مثلًا: من سنوات قليلة سابقة قالوا أنهم اكتشفوا اكتشافًا علميًا مذهلًا ، أن الحواس لها ذاكرة مستقلة ، وأن كل خلية عصبية تحمل ناقلات معلوماتية .. وهكذا دواليك.
القصد يا أستاذ ملحد وببساطة شديدة: أن العقل والذاكرة مفاهيم لا تخضع للحتمية التجريبية التي تستعملها أنت.. هذا أولًا.

ثم يقول بعدها :
"الذاكرة البشرية بتحفظ الأحداث المهمة بس"
وهذا الكلام ثبت خطؤه علميًا منذ زمن يا مستر ملحد .. من فضلك ، حدّث معلوماتك ..
ومع ذلك فالكلام هنا –لما كان مطروحا في الأوساط العلميّة- كان كلامًا على الذاكرة العادية, التي لا تتعمد فيها الحفظ.
يعني : المواقف التي تمرّ بها عرضًا, الكلام الذي تسمعه, الأحداث والأشخاص الذين يقابلونك, ثم لا تحاول الاحتفاظ بتلك المعلومات.
أما الذاكرة المتعمّدة, الحفظ المقصود فلم يدخل أصلا تحت تلك القاعدة التي أثبتت خطأها فيما بعد.
فالإنسان قادرٌ على حفظ الأشياء التافهة إن حاول, كما هو قادرٌ على حفظ الأشياء المهمة إن حاول.
تستطيع أن تحفظ أشياء تافهة كثيرة, مذكرات الشيف شربيني, مغامرات الكابتن ماجد, حلقات شريف جابر .. جرّب أن تحفظ شيئًا من هذا وستجد أن الذاكرة لن تمحوَه, بل ستحتفظ به دون مشاكل.
فحتّى لو أن الذاكرة تتخلص من الأشياء غير الهامة فتلك الذاكرة العادية لا ذاكرة الحفظ, ثم فوق ذلك : الحديث كان أهم شيء عند البخاري.
فأهم شيء عند الطباخ هو وصفات طعامه, عند المؤرخ هو أحداث التاريخ, عند عالم الكيمياء هو العناصر الكيميائية, عند طفل يطلب علم الحديث ويتفرّغ له : هو الحديث.
فلماذا عسى الذاكرة التي تظنها تتخلص من الأشياء غير المهمة تتخلص من الأحاديث إن كانت أهم شيءٍ عندك ؟!
دعنا نتكلم عن خلل منهجي آخر –وكثُرت أخطاؤك!-
يقول : "أكثر إنسان دخل موسوعة جينيس كان ... "
وقال إنسانًا ومنجزه في الذاكرة .. إلخ
الآن : دعنا نفكّر ببعض عقلٍ يمتلكه طفل صغير فقط.
ثم لنسأل سؤالًا جادًا: كم عمر موسوعة جينيس كلها من رأسها إلى قدميها؟
في الحقيقة: فكرة الموسوعة نفسها بدأت عام 1950م ، أي أنها كلها بتاريخها بدأت منذ أقل من 100 عام!!
الآن : ماذا يريدنا أن نفعل شريف؟
يريدنا أن نأخذ رقمًا تحقق في الخمسين سنة الآخيرة، في موسوعة عمرها أقل من 100 سنة لنفعل ماذا؟
لنعممه على كل ذاكرة حيّة مرت بتاريخ البشرية!!
وليس هذا فقط : بل أن نحوّل هذا الرقم إلى مطلقٍ في تاريخ البشرية فنقول : هذا هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان!
ثم نتنحنح ونرخّم صوتنا ونصدّر ذلك الخبَل والخطل بجملتنا المبتذلة :
" علميًا . . العقل البشري غير قادر على حفظ هذا الكم من المعلومات"
هكذا يجب أن يكون المنهج العلمي أيها الناس, اجمعوا عقولكم في صعيدٍ واحد, ثم ائتوا بملحدنا ليبول عليها حتّى يرضى!, فإذا انتهى من بولته قال : هكذا يقول العلم, فرددنا : سمعنا وأطعنا.
ومن أعجب العجب أن هذا الهزل ليس تجربة معملية أو شيء من قياسات الذاكرة مثلًا
بل مجرد تجربة لأحد الأشخاص، اكتشفته موسوعة جينيس، ولا يستحيل لا عقلًا ولا بالتجربة أن يوجد من هو مثله ولا من هو أعلى منه في عصرنا الحالي، فضلا عن عصر البخاري الذي مر عليه قرابة الألف عام!!
لا أدري ما الحجة المتمثلة في أن شخصًا حفظ قدرًا هائلًا من الأشياء فنقول : لا يمكن لأي شخص كان أو سيكون مستقبلًا أن يجاوز هذا القدر !
سبق وأخبرتكم : التخبط المنهجي قد ينقذ الشخص مرة ، لكنه لن ينقذه للمرة السبعين تقريبًا في أقل من 3 دقائق في حلقة مكوّنة من 27 دقيقة من الهراء المحض!
عمومًا، دعوني أفاجئ ملحدنا:
تاريخ البشرية كله معتمد على الحفظ كعاملٍ أساسيّ، كله بلا استثناء، وكل أمة كان عندها حفظة خارقون يحملون تراثهم، وكل حضارة إنسانية لديها قصص عن الحفظ وقوة الذاكرة، المشكلة أن شريف يعتبر أن التاريخ البشري يساوي = موسوعة جينيس ، وهذه مشكلة أنا لا أملك حلّها فعلًا!
لأنها أحد تمثلات الغباء الإلحادي ، فماذا أملك لها إلا ضرب الكف بالكف؟
طبعًا سيقول : أثبت لي أن هناك من قدر على حفظ هذا القدر من المعلومات، فأقول : لا تتعجل, رزقك قادم .. لكن اسمحلي أن أشارك القرّاء إحدى نكاتك أولا ثم أعود لأختم المقال بإثبات إمكانية تجاوز الـ70 ألف حديثٍ حفظًا وبالتجارب المتعددة في الماضي والحاضر.
---------------------
(6)
فضيحة شريف جابر :
أتبلغُ الجرأة بالرجل أن يعامل العقلاء كما يعامل الماعز والأغنام؟
قل : إي وربي إنّه لحقّ ! حقٌّ رأيناه على يد شريف جابر في مهزلته الكُبرى, التي ألبسها لَبوس العلم !
يحكي لنا عن رجلٍ دخل موسوعة جينيس, حفظ 68 ألف رقم متتالي
ثم يقول : "لو هنحوّل كل رقم لكلمة على سبيل التقريب مثلًا"
ثم يقسم ناتجه الذي حصل عليه من عملية النصب الإحصائية التي بيّناها 9 مليون على عدد الأرقام التي اعتبرها كلمات 68 ألف ليخرج بأن البخاري قد حفظ 132 ضعف ذلك الرجل الذي في موسوعة جينيس !
أين الطُرفة؟ بل أين الطّامة؟
هي تحديدًا في قوله : "لو هنحوّل كل رقم لكلمة على سبيل التقريب مثلًا"
ركّز معي وتخيّل تلك المهزلة, يساوي شريف جابر بين حفظ أرقامٍ على التوالي, وحفظ كلماتٍ متراكبةٍ لها معنى !!
مثلا: 1, 5, 6, 8, 6,7 , 0 ,6 ,7,8,4,6,6,4
حفظ تلك الأرقام بترتيبها
أسهل عنده من حفظ :
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين, إياك نعبد وإياك نستعين
لأن الأولى = 14 رقم
والثانية = 16 كلمة !
هلّ مرّ بكَ حمقٌ قط ؟!
يعامل الكلمات على أنها وحدات متتالية لا علاقة معنوية بينها تسهّل عليك الحفظ
فمثلا: كلب – يركب – في – أحمد – أسد – عالٍ – إلى – الشارع
حفظ تلك الكلمات بترتيبها لا فرق بينه وبين حفظ : إذهب إلى الشارع لتلعب الكرة وتعالَ قبل المغرب
لأن كليهما 8 كلمات
ولا فرق بينه وبين حفظ 8 أرقام متوالية على غير نمط !
هل مرّ بك حمقٌ قط ؟!
اختر 359 رقم , وانثرهم بصورة عشوائية, ثم احفظهم
لتكون بذلك مساويًا لرجلٍ حفظ سورة النجم ! لأنها 359 كلمة !
هل مرّ بك حمقٌ قط ؟!
الرقم القياسي في موسوعة جينيس للأرقام القياسية = حفظ 68 ألف رقم
وللتقريب يستبدل الملحد شريف جابر الأرقام بكلمات الحديث! ويعتبر كسر هذا الرقم = كذب.
أخبروه أن كلمات القرآن الكريم فوق الـ 77 ألف كلمة ! فعلى هذا كلُّ حافظٍ للقرآن قد حطّم رقمه الجينيسيّ السخيف !
ثم أخبروني .. صادقين .. ضاحكين .. هل مرّ بكم حُمقٌ قط ؟!
---------------------
(7)
هل يقدر الإنسان على حفظ 70,000 حديث ؟
دعونا نثبت لملحدنا العبقري أن حصيلته من العلم كحصيلته من الإحصاء كحصيلته من الفهم تمامًا = تحت الصفر.
العلماء حددوا أنماطًا للذاكرة كثيرة ، والقدرة الخارقة على الحفظ ظاهرة ظهرت قبل العلم نفسه ، حتى أنهم قسموا أنواعًا للذاكرة (غير الاعتيادية) ، ومنها مثلًا نوع معين من الذاكرة يسمى بالذاكرة الاستحضارية / الصورية ، ويتميز هذا النوع بقدرته الفائقة على استحضار تفاصيل دقيقة جدًا مضى عليها عقود من الزمن ، عقود بما تعنيه الكلمة .. ويستحضرها على شكل (مشهد) ، كأنه يراه أمامه!
نشرت صحيفة الجارديان تحقيقًا عن سيدة تدعى : Jill Price ، هذه السيّدة لديها قدرة هائلة على استحضار تفاصيل يوم مر عليه ثلاثون عامًا بكامل تفاصيله ، كيف كانت تفعل فيه بالساعة والتاريخ
وليست هذه وحدها : الرياضي جون نيومان كانت لديه القدرة على تذكر تفاصيل كل كتاب قرأه طول حياته ..
الطيار ستيفن ويلت شاير كانت لديه القدرة أن يرسم الخط الذي سارت فيه طيارته تمامًا وبدقة منذ أقلعت إلى أن هبطت ..
الموسيقار سيرجي راشمانينوف كانت لديه القدرة على استعادة نوتة موسيقية بعد قراءتها مرتين اثنتين ..
في العالم 1970 أجريت دراسة على رسامة تدعى إليزابيث كانت لديها القدرة على رسم لوحة بعد رؤيتها لمرة واحدة فقط!
حسنًا ، لدينا لكم في الحقيقة مفاجأة : هذا النوع المذهل من الذاكرة احتمالية وجوده في "الأطفال" أعلى كثيرًا من وجوده في "البالغين"
أي أن ما يقوله ملحدنا الممتاز هو في الحقيقة ضد العلم الذي يتغنى به .
يقول آندرو هودمون في كتابه Learning and Memory : "الأطفال لديهم قدرة أكبر بكثير من البالغين على الاستحضار الصوري ، يقترح عزو ذلك إلى أن تغيرات بنيوية تحدث (مثل اكتساب مهارات لغوية جديدة) تقلل من إمكانية التذكر \ الاستحضار الصوري"
ما استنكره ملحدنا الجميل ظهر لنا أن العلم يؤكده تمامًا : أن الحفظ (الحرفي) في الصغر أسهل كثيرًا ، وأن استحضار المواقف بتفاصيلها وحذافيرها أسهل عند الأطفال .
هل توقفنا؟ ، لا ، في الحقيقة أن علوم الذاكر تخبرنا المزيد ، حتى أنه من زمن الإغريق تواجدت تقنيات معينة لزيادة الطاقة الاستيعابية للذاكرة فيما صار يعرف بعدها باسم الـ Mnemonic
هناك على مستوى العالم مسابقات للذاكرة ، منها مثلًا - وهي من أصعبها - مسابقة يتم إسماع المتساابق فيها مقطوعة صوتية تتكون من : صورة ، كتابة ، صورة ، صورة ، صورة ، كتابة ، صورة ، كتابة ، كتابة ... إلخ ، حتى تقريبًا عدد 120 - 200 كلمة على هذا المنوال .. ويطلب منه استرجاعها بعد سماعها مرة واحدة
هل نجح واحد في هذا ؟ ، نعم ، بل كثير ..
الآن أخبرني : ما الأسهل ، أن تحفظ الجملة التالية : "صورة كتابة كتابة ، صورة صورة ، كتابة صورة كتابة كتابة كتابة كتابة صورة " لأول وهلة ، أم تحفظ : "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوي ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله. "أ.هـ
بالمناسبة : عدد الكلمات في الجملتين متساوٍ
بعض المتسابقين مثلًا في استضافة له قال أنه قدر على حفظ 440 رقم متتالين ليس بينهم أي علاقة رياضية ..
يعني : 25 ، 245 ، 6576 ، 43 ، 7878 ، 234 ، وهكذا ..
هل حفظ هذه أسهل ، أم حفظ : "الصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء" ؟
لاحظ 9 كلمات ، و6 أرقام فقط ، والأصعب كانت الأرقام ..
فإذا كان الأصعب قد تحقق وفي زماننا ، فما بالنا بالأسهل؟
يعني أن ملحدنا المثقف - جدًا - قد بنى اعتراضه كله على لا شيء في النهاية!
ثم مالنا نذهب بعيدًا؟
أحد كاتبَي هذا المقال حفظ 23 جزءًا من القرآن في شهرين اثنين فقط.
وكثير من الأحياء اليوم يحفظون البخاري ومسلم في شهور ، بل إن هناك برنامجًا اسمه حفظ الصحيحين يحفظ الطالب الصحيحين بزوائدهما في سنة واحدة فقط ، يعني البخاري + مسلم في سنة .. بحفظ 3 صفحات فقط يوميًا ، 3 صفحات يستطيع طفل صغير حفظهم في ساعة ونصف مثلًا!
ملحوظة : عدد أحاديث مسلم 3000 حديث بالتقريب للأقل, وعدد أحاديث البخاري 7500 حديث بالتقريب للأقل.
يعني الناتج = 10500 حديث (عشرة آلاف وخمسمائة حديث)
يحفظهم مئات الأشخاص في سنة بمعدل 3 صفحات يوميًا !
يعني لو استمر على نفس المعدّل بحيث يحفظ 70 ألف حديث في 7 سنوات فليس هذا ضربًا من المستحيل, فكيف لو زاد المعدّل ؟!
مثلًا، قبائل الشناقطة في موريتانيا يحفظ أبناؤهم على يد أمهاتهم القرآن وكتب السنة والألفيات العلمية (ألف بيت من النظم العلمي) كألفية ابن مالك وهم دون سن المدرسة أصلًا، بالتكرار فقط من الأم على ولدها ..
كثير من الحفاظ اليوم يحفظون كتب السنة التسعة (البخاري ومسلم كتابين من ضمن تلك التسعة)
بعض أساتذتنا الذين معنا هنا على الفيس بوك يحفظون فوق الـ 30 ألف بيت من الشعر!
ومن قبله البشير الإبراهيمي رحمه الله كان يحفّظه عمه وهو صبيّ 100 بيت من الشعر والنظم العلميّ يوميًا !
يعني في 3 سنوات = 100 ألف بيت وزيادة !
والشيخ أحمد شحاتة الألفي حيٌّ يُرزق في الإسكندرية, يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث بأسانيدها.
والشيخ محمد ولد الددو الشنقيطي يحفظ كتب السنّة الستّة وبعضَ الشروح عليها كفتح الباري شرح صحيح البخاري , يحفظه بنصّه, وهو مطبوع في 14 مجلدًا .
ولتعجبوا أكثر, يحكي بعض تلاميذ الدكتور مبروك عطية (الشيخ صاحب الأسلوب المبسّط الفكاهي) عنه أنه يحفظ كتاب الكتاب لسيبويه كاملًا (هذا أول كتاب وضع في النحو ومطبوع في 6 مجلدات المجلد قرابة 500 صفحة .. وبالطبع ليس بسهولة الأحاديث من حيث طريقة الكلام)
هل فهمتهم؟ ، المقصود أن الذاكرة التي امتلكها البخاري كانت مميزة نعم ، لكن ليست مستحيلة ولا خارقة ، نرى أمثلة منها في حياتنا بشكل عادي , لكن قليلًا .. فيحاول الملحد أن يستخفّ عقولنا ويجعل هذا القليل مستحيلًا, عن طريق نصبٍ في الإحصاءٍ, وخطأ في العلم, واستغفالٍ صريحٍ في أرقام موسوعة جينيس.
---------------------
(8)
كلُّ ما سبق من الفضائح كان في الـ3 دقائق الأولى فقط من حلقته المليئة بالهراء والخداع والنّصب والاستخفاف بعقول المشاهدين.
وإن العاقل ليستدلّ بالجزء على الكلّ, وإن العامّة لترى مثل هذا فتقول : أول القصيدة كُفر.
فكيف تطمئن -بعدما رأيته- لأي شيءٍ مما يأتي به ذلك الملحد في حلقاته وبرامجه ؟
وننوي إن شاء الله أن نستكمل تلك السلسلة من المقالات حتى نأتي على حلقته كلها جملةً جملةً, فنوضح ما فيها من خداع وتلبيس, ونبرهن على أخطائها, ونشارككم بنكاتها وطرائفها.
وننبه أنه في التعليقات بعضُ الروابط المهمة التي تبيّن لك لأيِّ مدى تستطيع ذاكرة الإنسان أن تتحمل من المحفوظات, وأن هذا ليس ممتعنا, وأن ما فعله البخاريّ وإن كان صعبًا إلا أنه ليس مستحيلًا, ولا يدّعي استحالته إلا جاهل أو مضلّل.
وربنا الرحمن المستعان على تصفون.

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.